قصة الإصطفاء والعناء …

بقلم ـ مرام صالح مرشد

هشاشة خاطر، اندملت بين الجروح، تراكمت وأصبحت جبلاً من الآهات، وكأن أحلامي حُبست في زجاجة، لم استطع تحقيقها إلا حين كسرت الزجاجة، فتارةً أفرح لوصولي لتحقيق أحلامي، وتارةً أحزن لكسر ماكان يحوي أحلامي، دَفنتُ تلك الأوجاع تحت الرمال المتكالبة، إلا أن الرياح كعادتها أتت صباحاً لتعبر من تلك الصحراء، فأخذت بأوجاعي ونثرتها من جديد، فما بكِ يا آلامي؟
أأحببتِ السكن بين أضلعي؟ أم أنكِ حُبستِ كما حُبست أحلامي؟
لا أعلم أين تكمن الإجابة …!!!

حين أتى العدو الصهيومتأسلم ليصب غاراته صباً من أعلى سماكِ يايمن، حنت رعودي، وجفّت وعودي، فاحترت من سيقول للراحة في اليمن عودي؟
فتعجبت أن هناك من حرك ذاك التوحش شيئاً بداخله، نعم صحى الكثير والكثير ونادى أحدهم بأعلى صوته وهو حاملاً بندقيته: الحل هُنا، الحرية هُنا، الأمن والأمان هُنا يامن تبحثون عن سببٍ لهذا القصف الهستيري، تعجب الجميع والتفوا حوله قائلين: وأين هذا كله؟ قال: إنه أمرٌ سهل خُذ بندقيتك، واحتضن كتابك، واسري مع خالقك ….

انطلق الكثير والكثير إلى ذاك المكان الذي تكمن فيه الراحة النفسية (جبهات الشرف والعزة)، فكان منهم أخي (أبو عابد) حيث كانت بداية انطلاقته، ذهب مع رفاقه، للنيل من أعدائه، ولتحرير بلاده، ذهبوا ورافقهم البعض، وعارضهم الأغلب، فلم يستمعوا لتلك الأفواه الغادرة، ولقنوا العدو مايستحق نيله، حيث كان كلاً منهم على اتصالٍ دائم بأهله ليطمئنهم عن أحواله،و كان أبو عابد منتظراً لإعلان نتيجته في المرحلة الثانوية، فمرت الأيام وجاء وقت زيارة الأهالي، فزار كلاً منهم أهله ومحبيه، وجاء أخي لزيارتنا، حيث كان يحدثنا عن اقتحاماتهم، وسريانهم في الليالي الغدراء، وفي الصحاري الصماء، تحت القصف، بين الصخورِ والرمال، وفي حرِّ الشموس ووقيدها، مع مايشنه الطواغيت عليهم من أمطار قاتلة، إلا أن ألطاف الله كانت ترافقهم أينما حلّوا، نعم حدثنا الكثير والكثير، حتى جاء اليوم الثالث من زيارته لنا ورأيناه يرتب ثيابه، ويستحم، ويقصر شعره، فإلى أين؟
إلى الميدان الأقدس.

عاد المزاورن من حيث أتوا وقاتلوا ونكلوا وظل مجاهدنا معهم فمرت الأيام والأشهر، يوماً تلو يوم، و شهراً تلو شهر، ولم تعد أخباره تصلنا كما اعتدنا عليه، انتظرنا القليل حتى أصبح القليل كثير، فلم يعد بالإمكان التحمل أكثر، بحثنا عنه وعن من كان معه، فالبعض قد أُسر وظل مابين السنة إلى السنتين وتم الإفراج عنه، والبعض لم نجد لهم أي سبيل مع الأسد (أبو عابد)، مرت الأشهر ومرت السنين، سنة تلو الأخرى وإلى اللحظة ولم نجد لهم أثر، حُرقت القلوب، وزاد ألمها لفراق بضعة من الروح، سالت دمعة الأم دماً من أعينها وصرخت قائلة: (لو يوصلني خبر استشهاد ابني احسن من انقطاع خبره)، نعم إن الشهادة عظيمة، لكن ألم الفراق أعظم، ومن خشية الأم على ولدها من أن يقع في أسر اليهود وعملائهم وتحت رحمتهم وتعذيبهم، دعت لربها أن يأخذ روح ظناها إليه، ويعتليه شهيداً، ما أصعب تلك اللحظات!!!
عمّ الحزن دارنا وانتظرنا لعودته طويلاً لكنه لم يعد….

فما كان على اخوته أن يضلوا مكتوفي الأيدي فانطلق الأخ الأكبر لأبو عابد، البطل (أبو هاشم)، الذي كان في السنة الثالثة من المرحلة الجامعية، إلا أنه فضّل الجهاد والشهادة الأبدية على الشهادة الدنيوية وملذات الدنيا، ذهب وجُرْح قلبه دامي على كل من جُرح، واستشهد، وفُقد، وسالت دماه، تنقل بطلنا من جبهة لأخرى، وجُرح، ولم يثنهِ جرحه عن الجهاد، فقاتل وقاتل حتى عُيّن لطلب وتوصيل المدد لرفاقه في ميادين العزة، إلى ذات يوم في جبهة تعز، كثف العدو غاراته على تلك الجبهة حين شعر بأن نهايته قريبة، فنكل بطلنا مع رفاقه بكل أولئك المرتزقة، المتخفيين خلف الصخور، الفارين من المعركة، حتى تأتي تلك الغارة السامة لتنزع من بطلنا روحه، وتوصلها إلى بارئها، اعتلى وارتقى بطلنا أبو هاشم شهيداً، فما يصطفي الله إلا العظماء، فعند علم والدته حزنت لفراقه حزناً شديداً، كحال أي أم فارقت ظناها، ولكنها تطمئنت لأنه سيكون في ضيافة الرحمن، بخلاف أخاه الذي انقطعت اخباره، ولم يعد، فإلى أين ياهشاشة خاطري وآهاتي؟

بقيت الأحداث تدور في رأس مجاهدنا الثالث (أبو مالك)، حيث وقد جاهد ونكل بالعداء أشد تنكيل وشارك في عدة انتصارات، فازداد ألمه حينما فارق أخاه، واصطفى الآخر شهيداً، حيث كان يأمل بأن يثأر لأخاه المفقود، وتحلق روحه مع أخاه الشهيد، وازدادت همته لكل الحاقدين على بلاده فواصل ماسار عليه أخوته، وتنقل بطلنا من جبهة لأخرى ومرت الأيام إلى أن تأتي تلك الشضايا الحارة لتخترق وجهه وأجزاء من جسده، فعرض عليه رفاق جهاده بأن يستلموا مكانه ويقومون بواجبهم الجهادي لحين شفاؤه، ليذهب جريحنا لمجارحة جسدة المتنشل بالشضايا، رفض بطلنا، وشقّ قطعة من ثيابه وربط بها جراحه وأتمم مهمته، وواصل قتاله إلى أن جاء الليل وولى المرتزقة الخونة مدبرين.

قَبِل جريحنا أن يذهب لزيارة أهله، فجاء إلينا ليلاً حيث لم نكن نتوقع مجيئه، سمعنا طرقة باب ونهضنا لفتح الباب ألا وهو مجاهدنا البطل، فرحنا فرحاً شديداً بعودته، إلا أن أقدامه كانت تتسارع بتلك العرجة التي كانت تصاحبه إلى الداخل، ولم ينطق بكلمة حتى لا يخيفنا، فتعجب الجميع، لاحظنا عليه جراحه فإلى تلك اللحظة الخاطفة للأرواح، لم نكن نعلم هل نفرح بمجيئه؟ أم نبكي لجراحه التي خرقت جسده، وأخضرت حول عيناه من شدة الضربة ،دخل وجلس بوجهٍ ضاحكٍ بشوش، وكأن شيئاً لم يكن ونحن في قمة الهلع قائلة أمي: (مالك ياولدي)؟
رد ضاحكاً: ( جريح يا اماه جريح)، لم تستطع الأم الرد ولو بكلمة، وضل وجهها خائفاً هلعاً، خشية من أن تفقد ظناها الثالث،
رد بطلنا قائلاً (مالكم ياماه مابه شي جروح بسيطة صلوا على النبي وآله، احنا بعنا من الله وانا عاهدت أخوتي ما أرجع إلا بالنصر أو ألحقهم شهيد، وأنا ما جيت إلا أطمنكم وشارجع)، ظل يحدثنا عن انتصاراتهم، وحياتهم الجهادية، وذكرهم وتسبيحهم لله والإنتصارات المشرفة، إلى أن نسينا مانحن فيه من ألم….

نعم نحن مسلمين لله، ولقائد المسيرة القرآنية (سلام الله عليه) أتم التسليم، ولكن للفراق ألم ينتزع القلب من مكانه ويعيده بالمقلوب، ومن ذا الذي سيضل مكتوف اليدين؟ أمام كل تلك الجرائم، وكل تلك الدماء التي سالت، وتلك الوحشية التي اعتدت، وأمام ذاك المتمرد المرعب الذي جاء في يوم لم تشرق شمسه إلا وأسال فيه دماء الأبرياء، النائمون وعلى ذهونهم أنهم سيستيقظون للعب كالعادة، إلا أنهم صحوا على تلك الأصوات المدمرة السالبة للأروح، والرامية للجسد أشلاء، فهنا الموقف وماكان لنا إلا أن ندفع برجالنا الأبطال إلى جبهات الكرامة، للنيل من هذا الوحش المتعطش للدماء، فهيهات منا الذلة، وأضرب بنا ياسيدي أنّى شئت، فهنيئاً لي ولكِ يا أمي مارزقكِ الله من رجالٌ أبطال، فلنمشي يا أماه معتليات الرأس، شامخات الهامة.

عن أخوتي أتحدث …..

#اتحاد_كاتبات_اليمن

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق