الثورة والثورة المضادة مقدمات وإرهاصات عهد علي عبد الله صالح (1-2)

 طاهر شمسان
…………………………………………………………………………………………………….
نحاول في هذه المقالة أن نعيد النظر في قراءة سردية الثورة اليمنية بهدف العثور على إجابات موضوعية على الأسئلة التالية:
(1) هل كان عهد علي عبد الله صالح امتدادا لثورة 26 سبتمبر 1962 أم أنه كان عهد ثورة مضادة لتلك الثورة؟
(2) لماذا ثورة 11 فبراير 2011؟
(3) هل انقضى عهد علي صالح بمقتله يوم 4 ديسمبر 2017 أم أنه مازال ممتدا إلى اليوم؟
(4) ما مدى شرعية ومشروعية الأطراف المتصارعة التي يكتظ بها المشهد اليمني الراهن؟ سيما أن كل منها يحاول أن يشرعن وجوده بدعوى الثورة والدفاع عن الجمهورية.
وفي سعينا للإجابة على هذه الأسئلة نؤكد أننا لا نريد من وراء ذلك أن ندين أحداً أو أن نفضل أحداً على أحد، وغاية ما يهمنا هو أن نفهم ما حدث وأن نتعلم من أخطاء الماضي. أما فيما يتعلق بكيفية قياس الثورة والثورة المضادة فهناك مجموعة من المعايير التي يمكننا الركون إليها دون أن نقع في محذور التحيز لطرف ضد آخر. وفيما يلي أهم هذه المعايير، وليس كلها:
(1)  الموقف من أهداف ثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963.
(2) المال: هل جاء من مصادر (داخلية أو خارجية) مشروعة يمكن التحقق منها؟ وهل ذهب في مصارف شفافة يمكن اخضاعها للرقابة والمحاسبة؟ أم هو مال سياسي غير مشروع جاء من الخارج واستخدم للإثراء الشخصي وشراء الذمم والولاءات؟
(3) القيادات والرموز: مواقفهم من أصدقاء وأعداء الثورة؛ منطوقاتهم المعبرة عن ثقافتهم غير العالمة؛ أقوالهم وأفعالهم … الخ.
(4) أهم التطورات والأحداث: وإلى أي مدى هي موجهة لصالح الثورة أو ضدها.
(5) بناء وإدارة المؤسسات (من حيث الاتساق مع الثورة أو ضدها): مع التركيز بنحو خاص على الجيش والأمن والكليات العسكرية والشرطية؛ التعليم في مختلف مراحله ومستوياته؛ الإعلام؛ الوظائف العليا في الخدمة المدنية والسلك الدبلوماسي؛ القضاء وأجهزة الضبط القضائي؛ التخطيط الحضري (معاييره وضوابطه) …. الخ
وقبل الإجابة على الأسئلة المبينة أعلاه سنحاول في هذه الحلقة الكشف عن المقدمات والإرهاصات التي أفضت إلى عهد علي عبد الله صالح؛ أما لماذا كان اختيارنا لهذا العهد دون غيره من عهود رؤساء الجمهورية السابقين له فلأنه العهد الذي استطال به الزمن وترك آثارا كبيرة على حياة ملايين اليمنيين الذي تؤكد الإحصائيات السكانية أن معظمهم لا يعرفون عهدا غيره ولا رئيسا غير رئيسه.
جدلية الثورة والثورة المضادة:
كل الكتابات التي انشغلت بثورة 26 سبتمبر والدفاع عنها ذهبت تتحدث عن الانقسام الكبير تجاه الثورة إلى جمهوريين معها وملكيين ضدها، وقد أدى هذا الفرز إلى خلط كثير من الأوراق ولعب دورا كبيرا في التعمية على جوهر الصراع وعدم إدارته جمهوريا بالشكل الذي يحقق أهداف الثورة. أما الجمهورية في هذا الفرز فقد كانت مجرد شعار أيديولوجي يتساوى فيه الجمهوريون الحداثيون الذين ثاروا ضد نظام الإمامة القروسطي لتجاوز الحاضر المتخلف إلى مستقبل متقدم مع الجمهوريين التقليديين الذين أرادوا التعاطي مع الجمهورية كلافتة تمنحهم الشرعية للحلول محل بيت حميد الدين (شيخ القبيلة القحطاني محل السيد الهاشمي العدناني) مع البقاء في الحاضر بعد تعديله سياسيا بشعارات مستعارة من مدونة الفقه الماضوي العباسي من قبيل “الشورى” وحكم “أهل الحل والعقد”.
والحقيقة أن الانقسام الكبير الذي أحدثته ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 لم يكن بين جمهوريين وملكيين إلا في الظاهر السياسي أما في الجوهر الثقافي (وهو الأهم) فقد كان بين قوى ماضوية تقليدية وقوى مستقبلية حداثية بمقاييس واقع اليمن آنذاك.
القوى المستقبلية الحداثية (قوى الثورة):
القوى المستقبلية الحداثية هي قوى الثورة التي كانت ترى في الجمهورية مشروعا سياسيا وثقافيا وتنمويا لصناعة المستقبل. وقد تألفت هذه القوى من طلائع السبتمبريين، وحركة القوميين العرب، وشباب ومثقفي حزب البعث، والطلائع الأولى من (الماركسيين والناصريين)، وآلاف المستقلين. ومعظم هؤلاء كانوا من أبناء الطبقة الوسطى (بشقيها القحطاني والعدناني) وأبناء الفلاحين الذين تقاطروا للدفاع عن الثورة من كل اليمن شمالا وجنوبا ومنهم تشكلت وحدات جيش الثورة ممثلة بالصاعقة والمظلات والمدفعية وسلاح الدروع وسلاح المشاة ولواء الوحدة ولواء العروبة ولواء النصر …. الخ، ومن هؤلاء أيضا تشكلت المقاومة الشعبية للدفاع عن الجمهورية.
القوى الماضوية التقليدية (قوى الثورة المضادة):
القوى الماضوية التقليدية هي تلك التي شكلت قوى الثورة المضادة لثورة 26 سبتمبر 1962 وكانت على قدر كبير من التجانس الثقافي، أما سياسيا فقد انقسمت إلى شقين أحدهما بقي ملكيا والآخر اختار أن يصطف مع الجمهورية لأنه بغير ذلك لن يستطيع أن يحل في الحكم محل بيت حميد الدين بسبب قحطانيته التي لا تنطبق عليها شروط الإمامة.
(1) الشق الملكي من الثورة المضادة:
تألف الشق الملكي من الثورة المضادة من قوى ماضوية تقليدية معادية للجمهورية سياسيا وثقافيا لصالح إمامة بيت حميد الدين وغيرها من الأسر العدنانية التي تنطبق عليها شروط الإمامة. كما التحقت بالشق الملكي من الثورة المضادة-بحكم الثقافة-قوى ماضوية تقليدية قحطانية من شيوخ وأبناء القبائل كان من أبرزهم الشيخ ناجي بن علي الغادر والفريق قاسم منصر …… الخ.
(2) الشق الجمهوري من الثورة المضادة:
تألف الشق الجمهوري من الثورة المضادة من قوى ماضوية تقليدية لا تنطبق عليها شروط الإمامة بسبب قحطانيتها، والجمهورية بالنسبة لها خيار سياسي اضطراري بدونها تتعذر عليها شرعية الحلول في الحكم محل بيت حميد الدين وممارسة الوصاية الأبوية على اليمنيين. وأبرز قادة الشق الجمهوري من الثورة المضادة كان الشيخان عبد الله بن حسين الأحمر (حاشد) وسنان أبو لحوم (بكيل)، وكان هذا الأخير دينامو هذه الثورة المضادة وعقلها.
وفي هذا المشهد واجه الجمهوريون الحداثيون نوعين من التناقضات الرئيسة:
(1) التناقض الأول كان بينهم وبين الشق الملكي من الثورة المضادة. ولأن هذا التناقض كان مكشوفا ببعديه الثقافي والسياسي فإنه-رغم حدِّيته وشراسته-كان الأقل خطرا على مستقبل الثورة والجمهورية بالنظر إلى الدعم العسكري الكبير الذي حظيت به ثورة 26 سبتمبر من قبل مصر عبد الناصر من ناحية، وبالنظر إلى الحاضنة الشعبية الواسعة-شمالا وجنوبا-التي آزرت ثورة سبتمبر ومدتها بآلاف المقاتلين الذين تمكنوا من دحر الملكيين وإسقاط حصار صنعاء بعد خروج الجيش المصري من اليمن.
(2) التناقض الثاني كان بينهم وبين الشِّق الجمهوري من الثورة المضادة الذي اصطف سياسيا مع الجمهورية بهدف الحلول في الحكم محل بيت حميد الدين. والحقيقة أن هذا التناقض كان هو الخطر الأكبر الذي أمسك بخناق الثورة والجمهورية وصادر مستقبلهما إلى اليوم، وبسببه لم تستطع ثورة 26 سبتمبر أن تتحول إلى دولة ولم يستطع جيش الثورة أن يستمر ليتحول إلى جيش للدولة.
الجدير بالذكر هنا أن علي عبد الله صالح استهل حياته جنديا في صفوف الشق الجمهوري من الثورة المضادة، وخاض معها كل حروبها ابتداء بأحداث أغسطس 1968 مرورا بحرب 1972 وحروب المناطق الوسطى وحرب 1979 وانتهاء بحرب 1994، ثم انشق عليها بعد ذلك بمشروع عائلي كان هو السبب في الإطاحة به على النحو الذي سنعرف تفاصيله تباعا.
برنامج الشق الجمهوري من الثورة المضادة:
لم يكن لدى الشق الجمهوري من الثورة المضادة برنامج مكتوب، لكن أقوال وأفعال ومواقف قادتها تؤكد أنها كانت تعرف جيدا ماذا تريد، وبالاستقراء تبين أن برنامجها تمحور سياسيا حول هدف مركزي يتضمن التخلص من بيت حميد الدين والقبض على السلطة بلافتة جمهورية تضفي على حكمها شرعية بديلة للشرعية التي قام عليها نظام الإمامة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف اشتغل الشق الجمهوري من الثورة المضادة على المسارات التالية:
(1) التمسك الشكلي بالجمهورية باعتبارها مصدر الشرعية البديلة لشرعية الإمامة: وعلى هذا المسار التقت قوى الشق الجمهوري من الثورة المضادة مع قوى الثورة في الدفاع عن الجمهورية ضد الملكيين الذين أرادوا عودة الإمامة.
(2) عقد مصالحة مع الملكيين تستثني بيت حميد الدين: وعلى هذا المسار كانت قوى الشق الجمهوري من الثورة المضادة تعترف لنظيرتها في الشق الملكي بحق الشراكة في الحكم على أساس مصالحة بينهما تتم تحت لافتة الجمهورية ولكن على قاعدة إقصاء قوى الثورة وفرض مركزية مناطقية ووصاية أبوية شديدة على كامل الجغرافيا التي قامت عليها مملكة الإمام يحيي.
(3) التخلص من الوجود المصري في اليمن: وفي هذا المسار كان الشق الجمهوري من الثورة المضادة يرى في الوجود المصري في اليمن دعما لقوى الثورة ويجب التخلص منه تمهيدا للتخلص من قوى الثورة في القطاعين العسكري والمدني.
(4) التحالف مع مملكة آل سعود باعتبارها الواجهة في التصدي للقوى الجديدة في العالم العربي قاطبة وفي اليمن على وجه الخصوص:
والحقيقة أن رهانات الشق الجمهوري من الثورة المضادة كانت في الاشتغال على المسار الرابع هذا، ولذلك أقدم قادتها منذ وقت مبكر على فتح قنوات اتصال مباشر مع قيادة المملكة من خارج الأٌقنية الرسمية للجمهورية الوليدة، وتمحور حجاجهم معها حول الأفكار التالية:
(1) أنتم تنظرون إلى الوجود المصري في اليمن على أنه تهديد لأمن المملكة واستقرارها، ونحن نشارككم هذه النظرة ونعتبر الوجود المصري خطرا علينا ولصالح القوميين والشيوعيين، وهذا قاسم مشترك كبير بيننا وبينكم، وجميعنا لا يحب أن يرى جنديا مصريا واحدا في اليمن.
(2) الوجود المصري لن يترك اليمن ما دمتم تقدمون المال والسلاح للملكيين وما دمتم مصرين على استمرار الحرب حتى اسقاط الجمهورية وعودة بيت حميد الدين إلى حكم اليمن.
(3) أهل مكة أدرى بشعابها، ونحن اليمنيين أدرى باليمن منكم، ونقول لكم بكل صدق إن رهانكم على عودة بيت حميد الدين لحكم اليمن هو رهان خاسر لأن الأغلبية الساحقة من اليمنيين لن يقبلوا بذلك وسوف يظلون يقاتلون من أجل الجمهورية إلى ما شاء الله.
(4) كلما طال أمد الحرب كلما تضاعفت قوة القوميين والشيوعيين الذين يسيطرون الآن على وحدات الجيش. ولذلك يجب أن تتوقف الحرب حتى تنتفي مبررات بقاء الوجود المصري في اليمن من ناحية، وحتى نتمكن من عقد مصالحة مع إخواننا في الصف الملكي تحت مظلة الجمهورية نكون بعدها قادرين على التخلص من القوميين والشيوعيين وإقامة دولة محالفة لكم على حدودكم الجنوبية.
(5) لا تنسوا أن بريطانيا على وشك أن تترك جنوب اليمن، وكل المؤشرات ترجح أن القوميين هم الحكام القادمون في الجنوب، وهذا سوف يضاعف من قوة القوميين والشيوعيين في الشمال على حسابنا وعلى حسابكم، وربما تحصل الوحدة بينهم، وحينها لن ينفع الندم.
وعندما استمع قادة المملكة إلى هذا البرنامج وهذا الحجاج تنفسوا الصعداء وأدركوا أن أعينهم كانت على سمكة (الملكيين) فساق الله إليهم حوتا رزقا سهلا (رموز الشق الجمهوري من الثورة المضادة)، ومنذ هذه اللحظة بدأ المال السياسي السعودي يتدفق أيضا على الشق الجمهوري من الثورة المضادة ولم يعد تدفقه قاصراً على شقها الملكي فقط.
التخادم بين مشايخ القبائل في شقي الثورة المضادة:
كان الشق الجمهوري من الثورة المضادة يمارس سلوكا مزدوجا، فهو يدافع عن الجمهورية من ناحية ويفتح خطوط تواصل مع الملكيين من ناحية أخرى، وكان يمارس هذا السلوك حتى أثناء حصار صنعاء. وفي هذا السياق كان رموز الثورة المضادة من داخل الصف الجمهوري-وأبرزهم الشيخان عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم-يكرسون وعياً زائفاً مؤداه أن مشايخ القبائل هم جمهوريون بالفطرة لكن إسناد قيادة ثورة سبتمبر لعبد الله السلال دفع بكثيرين منهم، كالغادر وآخرين، إلى تفضيل الملكية على الجمهورية لأن السلال نَجْلُ فَحَّام وهذا مقام لا يؤهل صاحبه ليكون رئيسا على علية القوم. هكذا كان قادة الشق الجمهوري من الثورة المضادة عنصريين في اختراع الذرائع الواهية لنظرائهم في الصف الملكي في وقت كانت فيه مدن وقرى اليمن تهتف يوميا “عاش السلال والعربي جمال”.
انقلاب الشق الجمهوري من الثورة المضادة على الرئيس السلال:
في 5 يونيو-حزيران 1967 احتلت إسرائيل قطاع غزة وسيناء والضفة الغربية وجزءا من جنوب لبنان ومرتفعات الجولان السورية. حينها سجد إمام الدعاة محمد متولي الشعراوي شكرا لله الذي كتب الهزيمة لمصر عبد الناصر-كما قال هو بعظمة لسانه-وسجد معه الإخوان المسلمون في كل العالم العربي كراهة لعبد الناصر وحبا لمملكة آل سعود، وفي اليمن سجدت الثورة المضادة بشقيها الملكي والجمهوري.
وعندما كانت القوات المصرية تستكمل انسحابها من اليمن-إثر هزيمة يونيو 1967-كان الشق الملكي من الثورة المضادة يزحف لمحاصرة صنعاء من كل الجهات، وفي الوقت نفسه كان الشق الجمهوري من الثورة المضادة يستكمل ترتيبات انقلاب 5 نوفمبر 1967 الذي أطاح بالرئيس السلال وجاء بمجلس جمهوري برئاسة القاضي عبد الرحمن بن يحي الإرياني. والجدير بالذكر أن الإرياني صاحب تاريخ نضالي، ومن كبار مثقفي حركة الأحرار اليمنيين ضد الإمامة، وقد جيء به إلى رئاسة المجلس الجمهوري لا ليكون فاعلا وإنما ليكون واجهة لفاعلين آخرين أبرزهم الشيخان عبد الله بن حسين الأحمر وسنان أبو لحوم، وعندما رفض أن يلعب هذا الدور تم الانقلاب عليه كما سنعرف لاحقا. وهنا يجدر بنا أن نذكر ما يلي:
(1) نفذ الشق الجمهوري من الثورة المضادة انقلاب 5 نوفمبر 1967 انطلاقا من رؤية خاصة به تداخل فيها البعدان المناطقي والمذهبي وإلى حد ما البعد الطبقي الذي يفسر تعدد الانتماءات المناطقية لرموز الانقلاب.
(2) كل ترتيبات ذلك الانقلاب تمت بسهولة ودون أي اعتراض من قبل قوى الثورة التي كانت على علم بتلك الترتيبات منذ أن شرع علي سيف الخولاني بتشكيل وحدة عسكرية من خارج القانون، ومنذ أن بدأ شيوخ القبائل بالتواجد الكثيف في العاصمة وإغراقها بالقبائل المسلحة. وعلى الأحياء من قيادات قوى الثورة وكوادرها ومثقفيها أن يقدموا تفسيرا لموقفهم هذا وألاَّ يتركوه عرضة للاجتهادات التي قد تخالطها الأهواء.
(3) شارك حزب البعث-وهو من قوى الثورة-في انقلاب 5 نوفمبر 1967 متحالفا مع الشق الجمهوري من الثورة المضادة، وكان هذا بسبب تناقضاته الثانوية مع حركة القوميين العرب من ناحية، وبسبب انفتاحه على القوى التقليدية وتمكين بعض رموزها من مفاصله التنظيمية المقرِّرة.
استقلال الجنوب وموقف الشق الجمهوري من الثورة المضادة:
بعد 25 يوما من الانقلاب على الرئيس السلال في صنعاء وتحديدا في 30 نوفمبر 1967 انتزعت الجبهة القومية استقلال الجنوب عن بريطانيا، وكان هذا على المستويين اليمني والعربي حدثا وطنيا وقوميا كبيرا لكنه أزعج مملكة آل سعود التي كانت تريد للجنوب أن يبقى ماضويا تقليديا على شكل فسيفساء من السلطنات الدائرة في فلكها. وانسياقا وراء إرادة مملكة آل سعود رفض قادة الانقلاب 5 نوفمبر 1967 في صنعاء الاعتراف بدولة الاستقلال في عدن. لكن القاضي الإرياني رأى أن يتم الاعتراف فورا وحجته أن صنعاء-المحاصرة حينها-مرشحة للسقوط بيد الملكيين، وإذا حدث ذلك فإن عدن ستكون هي المنطلق لمواصلة النضال من أجل استعادة صنعاء. وقد كان ما أراده القاضي الإرياني.
حصار صنعاء وملحمة السبعين يوما:
استمر حصار صنعاء سبعين يوما وانتهى في 8 فبراير 1968. وكان كسر الحصار ملحمة وطنية بكل المقاييس اجترحها في المقام الأول جيش سبتمبر ممثلا بالصاعقة والمضلات والمدفعية وسلاح المشاة وسلاح الدروع ولواء العروبة ولواء الوحدة ولواء النصر ….. الخ فضلا عن المقاومة الشعبية. وفي هذا السياق يجب أن نذكر أن بعض شيوخ القبائل شاركوا ببسالة في دحر الحصار وأشهرهم في هذا المضمار كان الشيخ الثائر أحمد عبد ربه العواضي الذي قاد معركة فتح طريق الحديدة صنعاء والشيخ الثائر عبد الخالق الطلوع الذي شارك في التصدي للحصار من خلال المقاومة الشعبية. أما الشيخ عبد الله حسين الأحمر ومن معه من المشائخ فقد شاركوا في دحر الحصار ولكن من موقعهم كثورة مضادة داخل الثورة، وهذا لأن الجمهورية بالنسبة لهم كانت خيارا سياسيا اضطراريا ولم تكن خيارا ثقافيا لإحداث قطيعة معرفية مع الإمامة.
وفي ملحمة السبعين برز أبطال كثيرون من كل اليمن شمالا وجنوبا، وعندما أصبحت الثورة المضادة دولة وظيفية تعمدت تغييب أسمائهم من كتب التربية الوطنية فنشأ جيل لا يعرف شيئا عن تاريخه الوطني القريب ورموزه.
الشق الجمهوري من الثورة المضادة وأحداث أغسطس 1968:
بعد أقل من ستة أشهر على كسر حصار صنعاء أغرق الشِّق الجمهوري من الثورة المضادة-متحالفا مع حزب البعث- العاصمة صنعاء بالقبائل المسلحة فيما عرف بأحداث أغسطس 1968 ضد جيش سبتمبر ممثلا بالوحدات العسكرية التي كسرت حصار السبعين يوما. وفي تلك الأحداث تم القضاء على وحدات الجيش وتشريد أفرادها وقتل قادتها وضباطها أو اعتقالهم، والذين تركوا صنعاء تم ملاحقتهم إلى قراهم النائية في أرياف تعز وإب والبيضاء ورداع. ودفاعا عن النفس ضد الاعتقالات والملاحقات والمداهمات والاغتيالات أسس ضباط جيش سبتمبر الجبهة الوطنية الديمقراطية التي أطلق عليها نظام الثورة المضادة في صنعاء مسمى “المخرِّبون”. الجدير بالذكر أن الثورة المضادة عادت ونكلت بحزب البعث وألقت بشبابه ومثقفيه في السجون ولم تبقِ من البعث إلا على القيادات التقليدية التي استمرت في السلطة زمنا طويلا امتد إلى 1990.
الثورة المضادة تستقبل قاسم منصر وتقتل عبد الرقيب عبد الوهاب:
بعد انتصار الشِّق الجمهوري من الثورة المضادة في أحداث أغسطس تهيأت العاصمة صنعاء لاستقبال قائد الجبهة الشرقية في الجيش الملكي في 5 نوفمبر 1968 (الذكرى الأولى لانقلاب الثورة المضادة على الرئيس السلال) كما لو كان من أبطال الثورة، بينما تم التآمر على حياة رئيس أركان جيش الثورة وقائد قوات الصاعقة وأبرز أبطال الدفاع عن الجمهورية عبد الرقيب عبد الوهاب وقتله غيلة وسط صنعاء في يناير 1969 بعد عودته من منفاه القسري في الجزائر. ومما هو جدير بالذكر أن عبد الرقيب حين قُتل لم يكن يشغل أي موقع رسمي ولا يملك غير سلاحه الشخصي وإنما قتل فقط لرمزيته وشعبيته وسيرته البطولية. وإذا كانت المسئولية الجنائية عن مقتله تقع على الفريق العمري كما يقول كثيرون فإن المسئولة التاريخية والوطنية والأخلاقية تقع على كل السياسيين-بما فيهم القاضي الإرياني-والعسكريين وشيوخ القبائل، وكل هؤلاء كانوا أصحاب الأمر والنهي داخل صنعاء التي كانت يومها قد أصبحت عاصمة خالصة للشق الجمهوري من الثورة المضادة.
مصالحة سبتمبر 1970 بين الشقين الجمهوري والملكي من الثورة المضادة:
تأسيسا على ما سبق غدا واضحا الآن أن اصطفاف جزء من القوى الماضوية التقليدية (بقيادة الشيخين الأحمر وأبو لحوم) مع الجمهورية كان اصطفافا سياسيا محسوبا بدقة، أما من الناحية الثقافية فقد كانت الوشائج التي توحد هذا الجزء نفسيا واجتماعيا مع الملكيين أكثر بما لا يقاس من تلك التي توحدهم مع الجمهوريين الحداثيين؛ ولذلك كانت هذه القوى منذ البداية تخطط من داخل الصف الجمهوري لحرب مؤجلة مع الجمهوريين الحداثيين ولمصالحة مؤجلة مع الملكيين تستبعد بيت حميد الدين، وفعلا تمت الحرب-بضوء أخضر من السعودية-فيما عرف بأحداث أغسطس 1968 بينما تمت المصالحة-تحت مظلة الجمهورية وبرعاية سعودية-في سبتمبر 1970 وبها أصبحت الثورتان المضادتان ثورة مضادة واحدة.
تحول الثورة المضادة إلى دولة وظيفية:
بعد مصالحة سبتمبر 1970 توحد شقا الثورة المضادة في ثورة مضادة واحدة التحمت في دولة وظيفية واقعة في حالة تبعية كاملة لمملكة آل سعود، وتحول مقاتلوها القبليون إلى جيش موالٍ لمراكز القوى في الدولة الوظيفية، وغدت الوهابية أيديولوجية رسمية مسنودة بتدفق المال السياسي السعودي وشيوع الفساد الذي أتى على كل مناحي الحياة في اليمن.
وقد صار معروفا بأثر رجعي أنه في هذا التوقيت من عهد القاضي الإرياني (5 نوفمبر 1967-13 يونيو 1974) كان الجندي الذي نشأ في كنف الشق الجمهوري من الثورة المضادة علي عبد الله صالح قد أصبح صف ضابط في اللواء الأول مدرع بقيادة أحمد حسين الغشمي، وفي هذا اللواء ترقى شرفيا إلى رتبة ملازم وربطته بالغشمي رفقة أحاطت بها شبهات رشحتهما لأدوار خطيرة فيما بعد.
حرب الثورة المضادة ضد الجنوب عام 1972:
منذ سبتمبر 1970 أصبحت الثورة المضادة دولة وظيفية في الشمال تعمل على تنفيذ أجندة السعودية في مناخ الحرب الباردة عالميا، وكانت هناك محرَّمات سعودية على نظام الجمهورية العربية اليمنية أبرزها:
(1) أية علاقة بين شمال اليمن وجنوبه قائمة على التفاهم والسلام والمنافع المتبادلة.
(2) أية إجراءات أو ترتيبات وحدوية أو حتى أحاديث ودية عن الوحدة اليمنية.
لم يكن رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني يقبل بالتدخل السعودي الفج في الشأن اليمني، ولكن رياح الثورة المضادة كانت أقوى من إرادته، ففي سبتمبر 1972 فجر شيوخ القبائل بقيادة الشيخين عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم حربا مع الجنوب شارك فيها الجيش النظامي والقبائل، وكانت جبهة قعطبة-الضالع هي مركز الثقل في تلك الحرب. أما الهدف المعلن من الحرب فكان احتلال عدن وإسقاط دولة الاستقلال ومن ثم إعادة السلاطين والسلطنات بدعم سعودي. وهنا نلفت عناية القاري إلى ما يلي:
(1) إن تلك الحرب منيت بالهزيمة.
(2) إن ضباطاً من جيش ثورة سبتمبر الذين شرَّدتهم الثورة المضادة في أحداث أغسطس 1968 شاركوا مع كثيرين من أبناء مناطقهم في التصدي للعدوان ضد الجنوب وأوقعوا عددا كبيرا من القتلى والجرحى بينهم الشيخ صالح أبو لحوم الذي لقي مصرعه في منطقة دمت، وكان هؤلاء الضباط من أبناء النادرة والعود ودمت والظاهرة والسَّبرة ورداع (المدينة والعرش) والرياشية والسوادية وجُبَنْ، ومنهم تشكلت نواة الجبهة الوطنية الديمقراطية بدعم من النظام السياسي في الجنوب الذي كان حينها قد أدرك حاجته الملحة إلى عمق وطني وراء حدوده مع الشمال يكون بمثابة سياج قوي يحمي الجنوب من اعتداءات واجتياحات نظام الدولة الوظيفية في صنعاء.
اتفاقية الوحدة في القاهرة أكتوبر 1972 وموقف الثورة المضادة:
في ظل نظام الدولة الوظيفية كان الحديث عن الوحدة في صنعاء يلقي بصاحبه في أقبية أجهزة القمع ممثلة بالأمن الوطني الذي تغير فيما بعد إلى مسمى الأمن السياسي. ورغم ذلك كان نظام الدولة الوظيفية يصدِّر حروبه الساخنة والباردة ضد الجنوب باسم الوحدة ليضفي عليها مشروعية وطنية وقبولا شعبيا، ولهذا كان كلما وقعت الحرب الساخنة بين صنعاء وعدن فإنها تنتهي باتفاق وحدوي. وهذا ما حدث مع حرب 1972. أما موقف الثورة المضادة من ذلك الاتفاق فقد لخصه أبرز قادتها الشيخ عبد الله الأحمر في مذكراته (ص 205) قائلا: “عندما انفجر الموقف بيننا وبينهم كان موقفنا قويا وصفنا لا يزال متماسكا نوعا ما” ثم يضيف: “وأول طعنة حصلت هي اتفاقية الوحدة في القاهرة في أكتوبر 1972 التي تمت بين الأستاذ محسن العيني وعلي ناصر محمد، فقد سافر محسن العيني من صنعاء بتعليمات واضحة (يقصد تعليمات القاضي الإرياني) يوقع على اتفاقية الوحدة بما فيها وكل ما فيها من ثغرات واستسلام وضياع”.
إذن اتفاق 1972 الوحدوي كان من منظور الثورة المضادة “طعنة واستسلام وضياع”. الجدير بالذكر أن محسن العيني دفع ثمن توقيعه على اتفاقية 1972 وترك رئاسة الوزراء إلى خارج اليمن.
الثورة المضادة في مواجهة القاضي الإرياني:
كان القاضي الإرياني ضد نهج الحرب مع الجنوب، وكان يرى أن تقوم العلاقة بين الشطرين على المنافع المتبادلة بما يخدم مصلحة المواطن اليمني في الجانبين، وكان أيضا مع السير بدأب نحو الوحدة مهما كان بطيئا، وعلى هذا الأساس صادق على اتفاقية القاهرة بينما رفضتها قيادات الثورة المضادة. ومعنى ذلك أن الإرياني لم يكن يصغي لإملاءات مملكة آل سعود. وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تقف الثورة المضادة في مواجهة نهج الإرياني الخارج على مهام الدولة الوظيفية. وفي هذا السياق كتب الشيخ الأحمر في مذكراته (ص 208) يقول:” حاولنا أن تكون لدينا استراتيجية للتخلص من هذا السرطان الموجود في عدن والذي كنا قادرين على استئصاله سنة 1972 بداية الحرب وقبل اتفاقية القاهرة التي أجهضت كل شيء، ولكن دون جدوى، فأصبحنا تائهين في حيرة والقاضي أصبح حجر عثرة أمام محاولات التصدي لهذا المد الخطير”. ثم يضيف في الصفحة نفسها: “ومن هذا المنطلق أصبح التغيير ضروريا”. والتغيير المقصود هنا هو الانقلاب على الإرياني، والإعداد لحركة 13 يونيو 1974. لكن الشيخ عبد الله كعادته لم يذكر أن الانقلاب على القاضي الإرياني كان بإرادة سعودية قوية، كما لم يذكر أن مشايخ حاشد وجهوا رسالة إلى الإرياني يهددونه بمهاجمة العاصمة صنعاء ما لم يقدم استقالته (مذكرات الشيخ سنان أبو لحوم؛ الجزء الثالث؛ ص 31).
الثورة المضادة وحركة 13 يونيو 1974:
كان القاضي الإرياني ينظر إلى العلاقة بين صنعاء وعدن على أنها شأن يمني سيادي خالص، ولهذا لم يعد-من المنظور السعودي-صالحا للبقاء على رأس دولة وظيفية مطلوب منها أن تكون في حالة حرب دائمة مع دولة الجنوب التي تعتبرها السعودية دولة شيوعية. وبالتالي كان لابد من الإطاحة بالإرياني، وتلك كانت إرادة سعودية يتبناها بقوة الشيخان عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم. وبالفعل أطيح بالقاضي الإرياني في 13 يونيو 1974 في عملية أرادها قادة الثورة انقلابا أبيضا وأرادها إبراهيم الحمدي حركة تصحيحية، وقد تشكل مجلس قيادة على النحو التالي:
(1) العقيد إبراهيم الحمدي رئيسا.
(2) مجاهد أبو شوارب عضو مجلس القيادة ونائب رئيس الوزراء. (وفي الوقت نفسه ظل قائدا لألوية المجد وعددها ثلاثة ألوية)
(3) علي أبو لحوم عضو مجلس القيادة (وفي الوقت نفسه ظل محتفظا بموقعه كقائد لقوات الاحتياط)
(4) محمد أبو لحوم عضو مجلس القيادة (وظل محتفظا بموقعه كقائد للواء الثالث مدرع)
(5) يحي المتوكل عضو مجلس القيادة ووزير الداخلية.
(6) محسن العيني (أستدعي من خارج البلاد ليكون عضو مجلس قيادة ورئيسا للوزراء)
(7) أحمد حسين الغشمي عضو مجلس القيادة (واحتفظ بموقعه كقائد للواء الأول مدرع)
(8) عبد الله عبد العالم عضو مجلس القيادة (واحتفظ بموقعه كقائد لقوات المظلات).
(9) محمد صالح الكهالي عضو مجلس القيادة (واحتفظ بموقعه كقائد للأمن المركزي)
(10) علي الضبعي عضو مجلس القيادة (واحتفظ بموقعه كنائب لرئيس هيئة الأركان)
(11) علي الشيبة عضو مجلس القيادة (احتفظ بموقعه كقائد للقوات الجوية)
وهنا يجدر بنا أن نلاحظ على قوام مجلس القيادة ما يلي:
(1) وقع الإجماع على إبراهيم الحمدي ليكون رئيسا لمجلس القيادة لأنه كان نائب القائد العام ومن الرتب العليا في الجيش، ولأنه على قدر عال من الثقافة بين ضباط الجيش وخطيب مفوَّه ومشهود له بالاقتدار السياسي، وإلى ذلك كان الحمدي يحظى بشعبية وقبول واسع داخل الجيش وخارجه وكان محل ثقة عند الشيخين عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم وعند القاضي الإرياني نفسه. يضاف إلى ذلك أن الحمدي ينتمي إلى فئة القضاة وليس له حاضنة قبلية يتكئ عليها، ولهذا أريد له ألاَّ يكون فاعلاً وإنما واجهة لفاعلين آخرين من مراكز القوى أرادوا أن يملوا عليه ما يريدون، والأرجح أن الشيخ عبد الله الأحمر كان يزكِّيه للرياض على هذا الأساس (ابْنَنَا).
(2) أربعة من أعضاء مجلس القيادة نحتسبهم في هذا المقال على الشق الجمهوري من الثورة المضادة وهم (القياديون في حزب البعث مجاهد أبو شوارب وعلي أبو لحوم ومحمد أبو لحوم) وأحمد حسين الغشمي. وهؤلاء الأربعة جميعهم من شيوخ القبائل.
(3) يحي المتوكل كان سبتمبريا من الضباط الأحرار لكن صفته القيادية في حزب البعث وضعته تلقائيا مع نظرائه البعثيين مجاهد أبو شوارب وعلي أبو لحوم ومحمد أبو لحوم.
(4) محسن العيني كان مثقفا وسياسيا مرموقا وصاحب سيرة وطنية، لكن صفته القيادية في حزب البعث وضعته تلقائيا في صف مجاهد أبو شوارب وبيت أبو لحوم شأنه في هذا شأن يحي المتوكل.
(5) محمد صالح الكهالي وعلى الضبعي كانا من السبتمبريين.
(6) عبد الله عبد العالم كان من الشباب الذين استجابوا مبكرا لنداء الثورة ودافعوا عنها.
(7) علي الشيبة: طيَار من مدينة صنعاء؛ ليس له عصبية قبلية؛ مصنف على أنه مقرب من الحمدي.
الصراع داخل مجلس القيادة وبداية صعود نجم علي عبد الله صالح:
(1) في سياق الاعداد لحركة 13 يونيو 1974 وتنفيذها كان الحمدي جملة ثورية اعتراضية في نص معظمه ثورة مضادة، وتفسير ذلك كما يلي:
(أ) إنه منذ البداية كان جمهوريا حداثيا ولم يكن مع القوى التقليدية التي اصطفت مع الجمهورية لتشكل ثورة مضادة من داخل الثورة. لكن الحمدي في ثوريته وحداثيته لم يكن راديكاليا وإنما كان صاحب نزعة إصلاحية حجبت ثوريته عن أنظار قوى الثورة المضادة التي اعتقدت أنه منها وإليها. وعلى هذا الأساس كان الحمدي مقبولا من الجميع.
(ب) إن محفزات ودوافع وأهداف حركة 13 يونيو عند الحمدي غيرها تماما عند الشيخين الأحمر وأبو لحوم. فالحمدي كان يدرك أن السلطة الفعلية في البلاد بيد مراكز قوى مؤلفة من شيوخ القبائل وبعض كبار الضباط وليس بيد القاضي الإرياني، وأن الجيش ممزق والولاء فيه ليس للوطن وإنما لمراكز قوى اليد الطولى فيها لبيت أبو لحوم، وأن الحرب ضد الجنوب هي حرب بالوكالة عن السعودية، وأن الوضع الاقتصادي للبلاد ينهار. وعلى خلفية هذا الإدراك الوطني خاض إبراهيم الحمدي معترك الإعداد لحركة 13 يونيو 1974.
(3) كان مجاهد أبو شوارب وعلي أبو لحوم ومحمد أبو لحوم من شيوخ القبائل ومن مراكز القوى في الجيش وخلفهما تقف عصبيات قبلية قوية، وكانت أيديهم على الزناد ضد أي إصلاح يمس مواقعهم ومصالحهم.
(4) لم تكن اجتماعات مجلس القيادة-الدورية وغير الدورية-تقتصر على أعضائه فقط وإنما كانت لا تصح إلا بحضور أكثر من ستين شيخا من حاشد وبكيل على رأسهم الشيخان عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم في مشهد فوضوي يضع القبيلة فوق الدولة وضدا عليها، وأي اعتراض من الحمدي على هذا المشهد سيواجه معارضة من مراكز القوى داخل مجلس القيادة وخارجه، ولذلك كان على الحمدي أن يتخلص أولا من هذه المراكز. وهذا الكلام جاء في محاضرة ألقاها إبراهيم الحمدي في القوات الجوية بعد تخلصه من مراكز القوى ونقله إلى كاتب هذه السطور القيادي الناصري حاتم أبو حاتم الذي كان حينها كبير المهندسين في القوات الجوية.
(5) من بين أعضاء مجلس القيادة كان أحمد حسين الغشمي يقدم نفسه على أنه يد الحمدي التي يضرب بها من يشاء وقتما يشاء وأينما يشاء إلى درجة أصبحت معها ثقة الحمدي بالغشمي بلا حدود. وفي ظل هذه الثقة اقترح الغشمي على الحمدي أن يعين أحد صغار الضباط في اللواء الأول مدرع واسمه علي عبد الله صالح ليكون قائد كتيبة في تعز في إطار مخطط للتخلص من مراكز القوى الممثلة ببيت أبو لحوم. وكان قائد لواء تعز حينها درهم أبو لحوم بينما كان علي أبو لحوم هناك قائدا لقوات الاحتياط. وقد كان أن استجاب الحمدي لمقترح الغشمي، ومن جانبه نفذ علي عبد الله صالح المهمة الموكلة له بنجاح استحق عليه لقب “تيس الضباط” مع ترقيته إلى رتبة رائد وتعيينه قائدا للواء تعز خلفا لدرهم أبو لحوم. ومن الأمور المحزنة جدا أن إبراهيم الحمدي غادر الحياة وهو لا يعلم أن نجاح “تيس الضباط” في التخلص من آل أبو لحوم كان مسرحية متقنة بين “التيس” والغشمي من ناحية، وآل أبو لحوم من ناحية أخرى. لكن الذي حصل فيما بعد أن الغشمي غادر هو الآخر الحياة وهو لا يعلم أنه مصنف سعوديا الرجل الثاني بعد علي عبد الله صالح وليس الرجل الأول وأن رئاسته كان مخططا لها أن تكون مؤقتة للفت الأنظار إليه في جريمة قتل الحمدي وتهيئة المسرح لرئاسة علي صالح. ومهما يكن من أمر فإن تعيين علي صالح قائدا للواء تعز كان أول صعود لافت لنجم هذا الرجل الذي لم يكن الحمدي يعرف شيئا عن خفايا وأسرار العلاقة المبكرة بينه وبين الغشمي وامتداداتها خارج اليمن. وبعد أن أصبح علي صالح قائدا للواء تعز أخذ الحمدي يتعامل معه على أنه من بين أهم مساعديه العسكريين خارج مجلس القيادة، وفي الوقت نفسه أصبحت المعلومات عن تفاصيل الصراع بين الحمدي ومراكز القوي المشيخية والعسكرية تتدفق إلى علي صالح بلا قيود وعلى النحو الذي أكسبه ثقة عالية بالنفس جعلته يرى يوم رئاسته آتيا لا ريب فيه.
(6) يوم 27 أبريل 1975 كان الحمدي قد تخلص من مراكز القوى المعيقة له داخل مجلس القيادة وأصدر قرارا جمهوريا بتوحيد الجيش واستبدال القيادات المشيخية بقيادات عسكرية، وتضمن القرار أن يكون هذا اليوم هو يوم الجيش من كل عام. وقد قوبل هذا القرار بارتياح واسع النطاق على المستوى الشعبي. وحينها تألف مجلس القيادة من الأسماء التالية:
(1) إبراهيم الحمدي: رئيس مجلس القيادة.
(2) أحمد حسين الغشمي: نائب رئيس مجلس القيادة ورئيس هيئة الأركان.
(3) عبد العزيز عبد الغني: عضو مجلس القيادة ورئيس الوزراء.
(4) علي الشيبة: عضو مجلس القيادة ونائب رئيس هيئة الأركان.
(5) عبد الله عبد العالم: عضو مجلس القيادة وقائد قوات المظلات.
وعلى خلفية هذا التطور دخلت الثورة المضادة في حالة أزمة لأن الرجل الأول في البلاد أصبح هو الفاعل الرئيس الذي يريد أن يعيد الاعتبار لثورة 26 سبتمبر وللنظام الجمهوري. ومنذ هذه اللحظة بدأت السعودية تعيد النظر في موقفها من هذا الرجل بدليل انسحاب شيوخ القبائل من العاصمة وذهاب كل منهم إلى منطقته يحرض ويحشد القبائل ضد الحمدي؛ فالشيخ عبد الله الأحمر ذهب إلى خمر وجعل منها ملتقى للثورة المضادة؛ وسنان أبو لحوم انسحب إلى نهم؛ وأحمد علي المطري إلى بني مطر؛ والحبَّاري إلى أرحب؛ والشيخ عزيز ذهب يقطع الطريق في حرف سفيان، وهكذا في كل حاشد وبكيل بالإضافة إلى عبيدة ومراد حسبما لاحظناه من حراك مشايخ القبائل في مذكرات الشيخ سنان أبو لحوم.
وفي مذكراته عن تلك الفترة كتب الشيخ عبد الله الأحمر (ص 219) يقول: “لم أعد أطمئن للحمدي، وتذكرت ما كان يبلغني به مجاهد أبو شوارب وبيت أبو لحوم من قبل أنهم اكتشفوا أن هذا الرجل خطير، فخرجتُ إلى خمر”. ثم يضيف في الصفحة نفسها: “عندما خرجتُ إلى خمر بدأ مسار المعارضة يأخذ موقفا قويا حيث استقطبنا القبائل وقليلا من العسكر فكانت المناطق من بعد ريدة إلى صعدة معنا، أما حجة فحصل من أهلها مقاومة لكنهم سرعان ما تخاذلوا وخذلوا مجاهد الذي كان يستند إليهم وقدم لهم الخدمات”.
وفي هذه الجزئية جدير بنا أن نذكر أن بعض القيادات العسكرية أشارت على الحمدي أن يستخدم القوة مع المشايخ بما في ذلك الطيران، لكن الحمدي رفض هذا بشدة مؤكدا على أهمية المعالجة السياسية للمشكلة، وفي إطار رؤيته هذه ذهب إلى خمر شخصيا وفاجأ المشايخ بحضوره وأسمعهم كلاما أكد فيه على أهمية احترام حضور الدولة ومبدأ سيادة القانون. الحمدي أضاف أيضا أن العاصمة صنعاء مفتوحة لكل مواطن يمني بما في ذلك المشايخ ولكن بغير سلاح ولا مواكب مؤكدا أن الدولة وحدها هي التي يجب أن تحتكر السلاح وهي المسئولة عن حماية مواطنيها على اختلاف مناطقهم ومشاربهم ومحتدهم الاجتماعي.
في 22 أكتوبر 1975 أقدم الحمدي على حل مجلس الشورى، فخرجت المسيرات المؤيدة لهذه الخطوة في صنعاء وتعز وإب والحديدة. وفي هذه الأثناء وصل إلى خمر الأمير تركي بن فيصل بن عبد العزيز، وعن لقاء المشايخ به كتب الشيخ عبد الله في مذكراته (ص 221) يقول: “كان أكثر ما ركزنا عليه هو إظهار استياء الناس من الحمدي والتفافهم حولنا، وفعلا رأى وسمع ما لم يكن يتوقع مما جعله يقول: هنا الدولة هنا اليمن”.
ماذا أراد الشيخ عبد الله من حركة 13 يونيو وماذا أراد الحمدي:
كل ما أراده الشيخ عبد الله هو أن يحل مجلس القيادة محل المجلس الجمهوري لفترة انتقالية قصيرة يتشكل بعدها مجلس جمهوري على غرار ما كان في عهد القاضي الإرياني مع بقاء الأوضاع في البلاد كما هي، وكأن الغرض من حركة 13 يونيو التصحيحية هو التخلص من شخص القاضي الإرياني والإتيان بشخص آخر مقبول سعوديا ومحاط بمراكز قوى عليه أن يعود إليها في كل شاردة وواردة، ولا مانع في هذه الحالة أن يكون الحمدي هو رئيس المجلس الجمهوري. غير أن الحمدي رفض أن يكون ألعوبة بيد المشايخ لتمرير ما يريدون وذهب يحل مجلس الشورى-بعد أن كان مجمدا فقط-وقدم برنامجا فيما يلي بعض بنوده:
(1) تمديد فترة الانتقال حتى يتم إجراء الانتخابات ويتكون مجلس شورى جديد.
(2) دراسة الدستور وتعديله وإعادة صياغته بحيث يكون متلائما ومتوافقا مع روح وأغراض وطموحات حركة 13 يونيو، وبحيث لا يكون هناك تداخل أو ازدواجية في اختصاصات السلطات الثلاث، مع ضمان تلاحمها وانسجامها على أساس الأخذ بالنظام الرئاسي.
(3) تشكيل هيئة تقوم بزيارة كل محافظة من محافظات الجمهورية ومناطقها للتعرف على آراء المواطنين في الدستور والتجربة ومقترحاتهم بالنسبة للتعديلات المرغوب إدخالها في الدستور. وفور انتهاء هذه الهيئة من إعادة صياغة مشروع الدستور يتم إجراء استفتاء شعبي حوله تطبيقا لمبدأ “الشعب مصدر السلطات” ومن أجل أن يأتي الدستور الجديد معبرا بحق عن إرادة الشعب وآماله الوطنية المشروعة.
(4) تشكيل مجلس استشاري فني لرئيس مجلس القيادة.
(5) تشكيل هيئة عليا لوضع وتنفيذ برنامج الإصلاح المالي والإداري في كافة مؤسسات الدولة.
(6) تطعيم جهاز الرقابة والمحاسبة والنيابة الإدارية بعناصر كفوة لضمان قدرتها على أداء مهامها بصورة إيجابية.
(7) تشكيل لجنة تكون مهمتها تسلم مظالم المواطنين في عموم مناطق الجمهورية.
(8) التأكيد على خطر الوساطات والمجاملات واحترام وتنفيذ القرارات والأوامر.
وهنا يجدر بنا أن نلاحظ ما يلي:
(1)  أن برنامج الحمدي هو على الضد تماما من برنامج الشق الجمهوري من الثورة المضادة الذي نص على “إقصاء قوى الثورة وفرض مركزية مناطقية ووصاية أبوية شديدة على كامل الجغرافيا التي قامت عليها مملكة الإمام يحيي”. وعلى هذا الأساس يكون الحمدي قد تجاوز الخطوط الحمراء للثورة المضادة التي أصبحت دولة وظيفية.
(2) كان الحمدي يتمتع بأفق معرفي واقتدار عملي وجاهزية سياسية ذات أبعاد وطنية وطاقة أخلاقية عالية، وبالتالي كان من الصعب الانتصار عليه في مربع السياسة، ولهذا لم يعد يجدي معه سوى الإجهاز على حياته، وكان هو متيقظا لهذا الأمر لكنه لم يكن يتوقع أن من سيطلق عليه الرصاص هما علي عبد الله صالح وأحمد حسين الغشمي.
مملكة آل سعود تقرر التخلص من الحمدي:
لم يصدر عن المملكة قول أو فعل ضد إبراهيم الحمدي وظلت العلاقة بين صنعاء والرياض تبدو كما لو كانت في أحسن أحوالها، لكن حراك مشايخ القبائل ضد الحمدي لم يكن ممكنا ما لم تكن السعودية موافقة عليه وممولة له. ومن يقرأ مذكرات الشيخين عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم سوف يستنتج بسهولة أن قيادة المملكة كانت منذ أبريل 1975 قد بدأت تعمل ضد الحمدي على مسارين تديرهما غرفة عمليات واحدة، الأول هو المسار القبلي عبر مشايخ القبائل، والثاني هو المسار العسكري والأمني عبر أحمد حسين الغشمي وعلي عبد الله صالح. ولكن هذين المسارين كانا منفصلين إلى درجة كان معها المسار القبلي يعتقد أنه هو المسار الوحيد الذي يعمل ضد الحمدي. ولذلك لم يكن الشيخ عبد الله الأحمر يكذب عندما قال في مذكراته إن مقتل الحمدي كان مفاجئا له ولمشايخ القبائل، أما أن الشيخ استقبل النبأ باستياء شديد فهذا مما لا يسمح لنا استقراء سياق الصراع أن نصدقه إلا إذا كان الاستياء من طريقة الإخراج الخبري وليس من القتل نفسه.

سفر المشايخ إلى الطائف:
استمر العمل على المسارين القبلي والعسكري الأمني لفترة طويلة نسبيا. وبحسب مذكرات الشيخ عبد الله (ص 222) أن السفير السعودي في صنعاء كان دائم التردد على خمر، وأنه-قبل مقتل الحمدي بأسبوعين أو أكثر-أبلغه بالتوجه لزيارة السعودية، وأنه توجه براً إلى الطائف مع مجموعة من المشايخ من كل مكان. ويضيف الشيخ عبد الله (ص 223) أنهم (المشايخ) بقوا في الطائف حوالي ثلاثة أسابيع أو أكثر أكدوا خلالها-للمسئولين السعوديين-أنهم رافضون للحمدي وأنهم يستندون في هذا الرفض إلى القاعدة الشعبية.
تردد محسن اليوسفي على الطائف:
كان محسن اليوسفي يومها وزيرا للداخلية، وكان بحسب مذكرات الشيخ عبد الله (ص223) يتحرك مكوكياً بين صنعاء والطائف في محاولة لتسوية الخلاف بين المشايخ والرئيس الحمدي في وقت كان فيه القلق قد بدأ يساور السعوديين “من سياسات الحمدي الذي كان يلعب على الحبلين”. فالحمدي-والكلام للشيخ عبد الله-كان يظهر للسعوديين أنه مستند إليهم، لكنه “بعد أن تخلص من مجاهد ومحسن العيني وبيت أبو لحوم والتيار البعثي بدأ بإقامة العلاقات مع النظام في عدن وإحلال الناصريين بدلا عن البعثيين في مؤسسات الدولة”، ثم يضيف في الصفحة نفسها أن موقف السعوديين من الناصريين لا يختلف عن موقفهم من البعث.
انقلاب الغشمي على الحمدي بحسب رواية الشيخ عبد الله الأحمر:
يقول الشيخ عبد الله في مذكراته (ص 224) إنه بعث برسالة إلى أحمد حسين الغشمي قال فيها إن التغطية الخبرية لمقتل الحمدي “مشينة وغير مشرفة”، وأضاف في الصفحة نفسها أنه خاطب الغشمي قائلا: “كان يجب أن تعلنوا أنكم قمتم بانقلاب وتعلنوا مبرراته بدل البكاء والأناشيد العسكرية وهذا الكذب”.
والملاحظ على كلام الشيخ عبد الله هذا أنه تحدث عن جريمة قتل الحمدي كما لو كانت انقلابا انفرد به أحمد حسين الغشمي-تفكيرا وتخطيطا وتنفيذا-بدافع الرغبة في الرئاسة ليس إلا، وكل هذا ليتجنب حقيقة أن مقتل الحمدي كان جريمة كبرى وقفت وراءها-تخطيطا وتمويلا وتنفيذا-مخابرات دولية وإقليمية معادية لحق الشعوب في الحرية والاستقلال والتنمية والاستقرار، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان بمقدور أحمد حسين الغشمي-ولا علي عبد الله صالح-أن يفكر بالرئاسة حتى في أحلام اليقظة.
ما أكثر المسكوت عنه عمدا في مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر. وفيما يتعلق بقتل الحمدي لم يذكر هذا الشيخ مشاركة الملحق العسكري السعودي صالح الهديان في تلك الجريمة ولو من باب نفي تلك المشاركة. كما لم يذكر الشيخ عبد الله أن الملحق العسكري السعودي نقل إليه بتاريخ 12 أكتوبر 1977-في اليوم التالي لمقتل الحمدي-توجيهات المملكة بتأييد الوضع الجديد (انظر مذكرات سنان البو لحوم؛ الجزء الثالث؛ ص 206). مذكرات الشيخ عبد الله لم تأتِ البتة على ذكر فتاتين فرنسيتين جاء في بيان نعي الحمدي إلى الشعب اليمني أنهما وجدتا مقتولتين إلى جانب إبراهيم الحمدي وأخيه عبد الله في فيلا قال البيان إن الحمدي اعتاد التردد عليها جنوب العاصمة. ولو لم تكن المخابرات الفرنسية ضالعة في جريمة اغتيال الحمدي لما تركت باريس الأمر يمر بصمت، والأرجح أن فرنسا-وهي صاحبة حضور ونفوذ لافت في جيبوتي-كانت منزعجة من قمة الدول المطلة على البحر الأحمر التي دعا إليها الحمدي.
لماذا وكيف تم قتل الحمدي؟
كانت السعودية تفضل التعامل مع رجل قوي في اليمن يقبل بما يلي:
(1) أن يكون رئيسا لدولة وظيفية تابعة لها سياسيا وأيديولوجيا وتنفذ ما يملى عليها في ظل الحرب الباردة، وبالذات فيما يتعلق بالعلاقة مع اليمن الجنوبي.
(2) أن يكون في حالة وئام مع شيوخ القبائل ولا يتحسس من تدفق المال السياسي السعودي إليهم، وأن يعود إليها في حال أي خلاف مع هؤلاء باعتبارها الضامن الوحيد لصلاح العلاقة المتبادلة بينه وبينهم.
والحقيقة أن الحمدي كان بالفعل رجلا قويا ولكن قوته كانت في ذاته وفي تكوينه المعرفي والثقافي والوطني وفي خبراته ومهاراته وليس للسعودية عليه فضل في ذلك. يضاف إلى هذا أن الحمدي لم يكن منخرطا في الحرب الباردة وامتداداتها الإقليمية والمحلية، ولهذا السبب لم يكن ليقبل أن تكون اليمن مصدر تهديد للسعودية، وفي الوقت نفسه لم يكن ليقبل أن تملي عليه السعودية ما تريد في إطار انخراطها في الحرب الباردة. ولكل ذلك لم يكن الحمدي يقبل بأقل من رئيس لدولة وطنية كاملة السيادة تضع مصالح شعبها فوق كل اعتبار. وفي إطار هذه الرؤية وهذا الفهم نفذ الحمدي السياسات التالية:
(1) أعاد بناء العلاقة مع الجنوب على أساس واحدية الجغرافيا والتاريخ والشعب وبما يخدم ويحقق الوحدة بين شطري البلاد سلميا وعلى أساس طوعي. ولذلك تلقى طلاب مدارس الشطرين في عهد الحمدي وسالمين تعليما موحدا بدأ بتوحيد مقررات الجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية. بينما واجه توحيد التعليم بعد إعلان وحدة 22 مايو 1990 معارضة قوية من قوى الثورة المضادة في بنية نظام دولة الوحدة.
(2) فتح قنوات اتصال مع الجبهة الوطنية الديمقراطية في المناطق الوسطى تمهيدا لحوار مفتوح معها يفضي إلى حلول تنهي المشكلة من حيث الأساس.
(3) انفتح على الناصريين ومكنهم من حقهم في العمل في أجهزة الدولة. أما أن الحمدي كان ناصريا أو أن الناصريين كانوا حمديين فالنتيجة واحدة. فإذا صح القول الأول فلأن الحمدي كان يسير في حقل ألغام وكان بحاجة إلى قوى وطنية تسنده فوجدها في الناصريين. وإذا صح القول الثاني فلأن الناصريين تمكنوا من قراءة اللحظة والتقاطها، وهذا يحسب لهم وليس عليهم. لكن هل كان الناصريون في علاقتهم بالحمدي بحجم التحديات التي واجهت هذا الرجل؟ هذا موضوع آخر ويحتاج إلى قراءة موضوعية لا يقدر عليها إلا الناصريون أنفسهم. وأما أن الحمدي أقصى البعثيين فهذا كلام يحتاج إلى تدقيق لأنه متعلق بمراكز قوى وثورة مضادة أكثر من تعلقه بالبعث.
(4) في إطار نهجه الإصلاحي اهتم الحمدي بخريجي الجامعات وتمكينهم من العمل في مختلف أجهزة الدولة وفقا لتخصصاتهم وتطبيقا لمبدأ “الرجل المناسب في المكان المناسب”.
(5) لم يجارِ رغبة السعودية فيما يتعلق بترسيم الحدود واعتذر عن ذلك بلياقة فيها قدر كبير من الود حين قال لقادة المملكة ما معناه: “حدودكم تصل إلى الجامع الكبير وسط صنعاء وحدودنا تصل إلى الركن اليماني في الكعبة”. والحمدي حينها كان يرى الأولوية لبناء مؤسسات الدولة وامتلاك مجلس نيابي يمثل إرادة الشعب بدونه لا يكون ترسيم الحدود متمتعا بالمشروعية.
(6) سعى الحمدي لأن يكون البحر الأحمر بحيرة عربية في إطار القانون الدولي، ومن أجل ذلك دعا إلى مؤتمر قمة للدول المطلة عليه لم تمتنع عن حضوره سوى السعودية.
(7) كان الحمدي قبيل مقتله قد قطع مسافة كبيرة باتجاه تأسيس المؤتمر الشعبي العام كإطار سياسي لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام.
(8) كان حل مجلس الشورى من بين الإجراءات التي أقدم عليها الحمدي بعد تخلصه من مراكز القوى في مجلس القيادة، وهذا لأن مجلس الشورى كان في معظمه لمراكز قوى معيقة.
(9) قام بحل مصلحة شئون القبائل.
(10) شكَّلَ اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري ولجانها الفرعية في كل مرافق الدولة.
ولكل ذلك اعتبرت السعودية إبراهيم الحمدي رئيسا ضالا وخارجا عن طاعتها، وبالتشاور مع حُماتها الدوليين اتخذت قرار ذبحه، ومن أجل ذلك اشتغلت مع الثورة المضادة على المسارين سالفي الذكر، وحين استدعت مشايخ القبائل إلى الطائف، وأثناء زيارات محسن اليوسفي المكوكية بين صنعاء والطائف كان قرار ذبح الحمدي قد أصبح جاهزا على الطاولة. وبالتالي إذا صح أن اليوسفي كان يتردد على الطائف في مسعى لحل خلافات المشائخ مع الحمدي فمعنى ذلك أن هذا الرجل كان أطرشا في الزفة في دور لا يَعلمُ أنه للتعمية على حقيقة المخطط، أو أنه كان يؤدي مهمة ظاهرها “سعي حميد” وباطنها “سعي خبيث”. ومهما يكن من أمر فإننا بشأن اليوسفي لا نستطيع أن نتحدث عن حقائق وأدلة ولا حتى عن قرائن لأن هذا ليس هدفنا من هذا المقال وكل ما نستطيع أن نلفت الانتباه إليه أن اليوسفي ظل في عهد علي عبد الله صالح محافظا لمحافظة تعز لفترة زمنية طويلة جدا لم تدم لمثله ولا حتى لسنان أبو لحوم في الحديدة.
نقطة ضعف الحمدي:
كان الحمدي واثقا من قدراته على إدارة الصراع مع خصومه بنجاح وإحباط كل المؤامرات التي تحاك ضده، لكن نقطة ضعفه أنه لم يكن يتوقع أن الخطر سيأتي من الغشمي وعلي عبد الله صالح، وهو في هذا لم يكن على خطأ، لكن غابت عنه معلومة في غاية الخطورة وهي ارتباط هذين الرجلين بدوائر استخباراتية خارجية سهَّلتْ مهمتهما ووفرت لهما كل عوامل النجاح وأغرتهما بالرئاسة وبالدعم الذي سيتلقاه كل منهما عندما يصبح رئيسا. وفي المجمل كان الحضور السعودي القوي في الجريمة-تخطيطا وتمويلا وتنفيذا- هو الأهم بين عوامل نجاحها.
موقف الغشمي من المشايخ:
قلنا إن الحمدي في مجلس القيادي كان جملة اعتراضية في نص معظمه ثورة مضادة، أما الآن ومع أحمد حسين الغشمي فنحن أمام نص كله ثورة مضادة.
كان الغشمي زمن الحمدي يتبنى المواقف نفسها التي يتبناها الحمدي من مشايخ القبائل، ومن الطبيعي والأمر كذلك أن ينفذ انقلابه على الحمدي بغير تنسيق معهم، وهذا لأن الدور الموكل إليه سعوديا يختلف عن الدور الموكل إليهم.
وفي (ص 224) من مذكراته يقول الشيخ عبد الله إن الغشمي-عندما أصبح رئيسا-“بعث إلينا برسالة يطمئننا ويؤكد لنا أن الخلاف الذي كان موجودا بيننا وبين الحمدي قد انتهى، ويطلب منا أن نبقى في خمر وألاَّ ندخل صنعاء”. وفي (ص 225) يضيف الشيخ عبد الله أن الغشمي ظل يطلب من المشايخ التريث، وأنه سوف يلتقي بهم كضيوف في بيته بمنطقة ضلاع، وأن اللقاء تم بالفعل وخلاله أكد لهم الغشمي “أنه معهم وأنهم وإياه في خط واحد”، ثم طلب منهم “أن يؤجلوا أي شيء وأن يتركوا له فرصة”. وأخيرا، وفي محاولة للتغطية على ما هو مكشوف، يقول الشيخ عبد الله “لم يكن عندي أي مطالب على أحمد حسين الغشمي حتى يتبين موقفه”.
ملاحظات على كلام الشيخ عبد الله بشأن موقف الغشمي من المشايخ:
استمرت فترة الغشمي (أكتوبر 1977-يونيو 1978) حوالي ثمانية أشهر وثلاث عشرة يوما لم نجد في مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر كلمة واحدة تشير إليها لا بالسلب ولا بالإيجاب. لكن لا بأس من التذكير بأن الحمدي-وهو من قوى الثورة-ذهب شخصيا إلى خمر لمواجهة مشايخ القبائل في أوج خلافهم معه وقال لهم بالحرف الواحد: إن العاصمة صنعاء مفتوحة لكم دائما لتدخلوها بسلام آمنين باعتباركم مواطنين ولكن بغير سلاح وتحت حماية الدولة. أما في فترة الغشمي-وهو من قوى الثورة المضادة-فقد كانت صنعاء محرمة على المشايخ بإرادة رئاسية صريحة رغم أن الخلاف بينهم وبين الرئيس لم يعد موجودا. وليس لهذا أي تفسير سوى واحدية التوجيه القادم من وراء الحدود. والأرجح عندنا أن مصدر التوجيه لم يكن ينظر إلى الغشمي على أنه الشخص المطلوب ليكون على رأس الدولة الوظيفية لاعتبارات لا نعلمها على وجه اليقين. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر شيئين اثنين أقدم عليهما أحمد حسين الغشمي في فترة رئاسته وهما إلغاء مجلس القيادة، وإنشاء مجلس الشعب التأسيسي برئاسة عبد الكريم العرشي. والأرجح عندنا أن مجلس الشعب التأسيسي الذي نشأ بتاريخ 6 فبراير 1978 إنما نشأ بإرادة خارجية في إطار التخطيط لنقل السلطة من أحمد حسين الغشمي إلى علي عبد الله صالح.
مقتل أحمد حسين الغشمي وتنصيب علي عبد الله صالح رئيسا للبلاد.
ووري الغشمي الثرى يوم 26 يونيو 1978، ويومها كان مشايخ القبائل قد وصلوا من كل مكان إلى صنعاء للمشاركة في التشييع. وفي هذا الوقت كان رئيس مجلس الشعب التأسيسي عبد الكريم العرشي قد أصبح بموجب الدستور رئيسا للبلاد من 24-6-1978 إلى 18-7-1978 وعنه صدر قرار جمهوري بترقية قائد لواء تعز علي عبد الله صالح إلى رتبة مقدم وتعيينه رئيسا لهيئة الأركان.
ومن مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر (ص 226) نفهم أن رئيس هيئة الأركان المقدم علي عبد الله صالح بدأ بعد مقتل الغشمي مباشرة يتصرف كما لو أنه هو الرئيس القادم، وأن المشايخ لم يكونوا راغبين فيه لاعتقادهم أنه غير قادر على تحمل المسئولية، ثم أضاف في (ص 227) يقول إن “المملكة العربية السعودية جاءت بطائرة تنقلني إلى هناك لإقناعي بعلي عبد الله صالح”، ثم يضيف في الصفحة نفسها أن السعودية دعمت علي عبد الله صالح بقوة وبشكل واضح، وأن الملحق العسكري السعودي العميد صالح الهديان بذل جهودا كبيرة لإقناع المشايخ، وأن علي بن مسلم وصل من السعودية إلى صنعاء لإقناعه وبقية المشايخ بعلي عبد الله صالح، وأن بن مسلم هذا لم يغادر صنعاء إلا بعد أن تمت الأمور.
أما الشيخ سنان أبو لحوم فيقول في الجزء الثالث من مذكراته ص 250 “بعد تشييع الغشمي اتصل رئيس الأركان علي عبد الله صالح يدعونا للاجتماع به في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة ووجدت لديه الأخ علي أبو لحوم، وكان حديث صالح ينم عن طموحه إلى الحكم فقد تحدث معنا كأنه المسئول الأول، وخرجنا متأكدين أنه سيتولى الرئاسة”
ومهما يكن من أمر فإن الرجل الذي بدأ حياته العملية جنديا في صفوف الشق الجمهوري من الثورة المضادة قد أصبح الآن رئيسا للجمهورية بدعم سعودي غير مسبوق وبإجماع أعضاء مجلس الشعب التأسيسي لم يخرج عليه إلا محمد عبد الرحمن الرباعي. الجدير بالذكر هنا أن مراكز القوى التي استعان الحمدي عليها بعلي عبد الله صالح كانت هي أول من التف حول هذا الرجل، ما يعني أن اصطفافه مع الحمدي ضدها كان مسرحية متقنة.
طاهر شمسان/ 11 فبراير 2024

مقالات ذات صلة

إغلاق